في ديار العمة ميركل

Text
0
Kritiken
Leseprobe
Als gelesen kennzeichnen
Wie Sie das Buch nach dem Kauf lesen
في ديار العمة ميركل
Schriftart:Kleiner AaGrößer Aa

في

ديار العمة ميركل

قص وحكي وسكوب بالأشعار

أحمد عمر

Dieses Werk ist inklusive aller seiner Teile urheberrechtlich geschützt. Jede Verwertung außerhalb der engen Grenzen des Urheberrechtsgesetzes bedarf der schriftlichen Zustimmung des Verlages und ist ansonsten unzulässig und strafbar. Dies gilt insbesondere für Vervielfältigungen, Übersetzungen und Mikroverfilmungen sowie die Einspeicherung und Verarbeitung in elektronischen Systemen.

Autor: Ahmad Omar (أحمد عمر) In dem Land von Tante Merkel (في ديار العمة ميركل) 1. Auflage, Darmstadt 2019 ISBN Buchausgabe: 978-3-9818631-2-3

ISBN eBook: 978-3-948011-13-0

Copyright © (2019) InterAssist UG, Darmstadt

Alle Rechte beim InterAssist-Verlag

Gestaltung und Satz: Ahmad Scheikh Obeid

Korrektur: Ahmad Omar

Umschlag: Illustriert von Yasser Ahmed

Kontakt: info@interassist-verlag.de

Tel: +49 6151 6292344

Web: www.interassist-verlag.de

محتويات

على مشارف ألمانيا:

نجوم سورية في ظهيرة ألمانية

"قِفَا نَبْكِ" على جدار البوندستاغ

امرؤ القيس الفرانكفورتي

عروستا زعتر بولونيّتان

أم الحويرث النمساوية

أم لهب الهامبورغية

الإبل فوق السطوح

مارلين مونرو الدمشقية

كابول في غرام برلين

نصف شهر عسل برّي

تتمة الحكاية التي لم تحكها شهرزاد

كوابيس مرشوشة بالسكّر

الملك لير الشامي

ارمسترونغ في مكة المكرمة

الأضحية

أحسن الدمج في ملّة الإفرنج

إلى وفاء

عقدة الحبل على حالها

على مشارف ألمانيا:
نجوم سورية في ظهيرة ألمانية

جاء دوري..

إنه صباح اليوم الواقع في الثالث عشر من ذي القعدة.

بعد معزوفة موسيقية، طرزتها أصابع سيدتين من بلاد فارس في الأسماع، ومعهما فارس صدح بأغنية باكية، لعلها على استشهاد الحسين، جاء دوري في تسريح الكلمات سراحاً جميلاً.

انتبهتُ إلى أن صحفية ألمانية تجلس بجواري، وكانت علامة انتسابها إلى الصحافة هي الكاميرا ذات السبطانة، تسددها إلى فرائس المشاهد. سألتني عن اسم الآلة التي يعزف عليها الموسيقار، فقلت باقتدار العارف: الطنبور، أما الآلة الثانية، فهي الدف، الدف في بلادنا له لحن خالد: طلع البدر علينا.

ثم شككتُ في حكمي، فقلتُ لعل الآلة الوترية هي البزق. أولو العلم والقائمون بالقسط يتمهلون في الحكم والتقدير، وهم يصنّفون الآلات التي تغرد، ويُستخرَج منها طيبات الأذن، بعدِّ أوتار الألحان واحتسابها، كما يعدّ علماء الحياة أجنحة الحشرات وأطرافها تصنيفاً ونسباً في عائلاتها، وقبائلها، وأممها.

جاء دوري في الساعة الحادية عشرة والنصف..

إنها المرة الأولى التي أشارك في أمسية، في ساعة من نهار تحت الشمس، فقد اعتدنا أن نقترفها تحت جنح الظلام المكسور بطلقة غادرة..

وكان ابْن أَخْطَبَ قد تقدم للموت، وعليه حلة فقاحية، وقَالَ قولة صدق: مَنْ يَخْذُلُ اللَّهَ يُخْذَلْ.

قمتُ بدورة كاملة من خلف خطوط النار، بعد أن سمعتُ اسمي في البوق، وكان ثمة طريق سهل إلى الميدان، لكن المرء يغريه طُولُ الأَمَلِ، وصلت إلى مغرب الشمس، بعد جهد. كنت وحدي، وبحاجة ماسة إلى نجدة من مترجم، أين اختفى المترجم؟ أين أنت يا أبا عارف، سفيرنا في غينيس هايم، صهر ألمانيا السوري سامر، كان قد اختفى في ظروف غامضة ....

بدأتُ التحية بالألمانية الفصحى، وقلت: في البداية طاب يومكم، وفي النهاية طاب يومكم أيضاً، فاستظرفوا قولي. قلت لصديقي المترجم الخائن، أغثني، فأغاثني باسل الفلسطيني، وكل الفلسطينيين بواسل، وكنت أريد أن أقول: في بلادي من العيب والعار أن يقرأ المؤلف قصة من كتاب مطبوع، أو قصة منشورة، فهذا يعني أن القصة من البالة، "سكند هاند"، " فلو ماركت"، مستعملة، ممضوغة، فضحكوا.

وقلت: إنّ ماركيز صاحب نوبل، قال مرّة: إن كل نص مكتوب هو أسد ميّتٌ، وتطيّرتُ أن أذكر اسم الأسد، خوفاً من حريق، فقلت: سبعٌ ميّتٌ، ليثٌ فاطس.. وقلت: قصتي الآن هي حمارٌ ميتٌ، وكدت أن أقول: قد يحب الكاتب التقاط صورة تذكارية بجانب جثة الليث الذي اصطاده، لكن بعد يوم من قتله ستفوح منه رائحة كريهة، وهممتُ بالقول: إني أشم رائحة جثة حمار مغدور، ولست سعيداً بقراءتها، وكانت بعنوان "السوري الأبيض المتوسط"، وَلَكِنّهُ مَنْ يَخْذُلْ اللهُ يُخْذَلْ.

وذكرت الملاحظة الثالثة، وهي أني شاركت في الترجمة، بتوضيح معاني بعض الجمل للمترجمين الثلاثة البواسل، الذين اجتمعوا على القصة قتلاً واغتصاباً وتنكيلاً، وقد غدر بها المترجمون، وكلهم هواة، ومبتدئون، وضحّوا بكل جملة أو إشارة لم يفهموها..

وهكذا كفّروا النبي صالح عليه السلام، وبرأوا قدار بن سالف الذي ذبح ناقة الله، واخفوا المآذن، وللمـآذنِ كالأشجارِ أرواحُ، بعد أن طمروها بالتراب. وكنت أريد أن أقول: إني أحب أن أبني نصوصاً وصروحاً بحجارة قديمة من سبأ وغمدان، ومدائن سليمان عليه السلام، وأن أخيط جروحي بخيوط مسلولة من نصيف خولة ببرقة ثهمد، وإني قد أَعْيَاني رَسْمُ الدَّارِ لَمْ يَتَكَلَّـمِ حَتَّى تَكَلَّمَ كَالأَصَـمِّ الأَعْجَـمِ.

وقلت: إني واثق أن الفلافل التي سيأكلونها اليوم أكلا لمّا، بعد انتهائي من تلاوة قصتي المغدورة، لذيذة وطيبة، أما وجبة النص الذي سيتلى بعد الترجمة، فستكون وجبة من الخبز وحده.. لكن الغريب أنهم سرّوا بالقصة بعد سماعها، وصفقوا للسيدة كابي التي قرأت ترجمتها، وكانت الترجمة الجافة، تشبه طلباً مقدماً إلى مؤسسة رسمية، كانت نصاً خالياً من الأدب ومعانيه، معلومات نكراء.

احتفظتْ الترجمةُ بالحكاية وحدها، بل إن سيدتين ألمانيتين طلبتا مني توقيعي ذكرى، كما يُطلب من النجوم على ما يسمونه في علوم النجوم البشرية "الاوتوغراف".

وكنت أريد أن أقول أشياء كثيرة قبل تلاوة القصة، كأن أقول: إني أتذكر حمار وحش، رأيته في فلم من عالم الحيوان، عَبَرَ النهر من العدوة القصوى إلى العدوة الدنيا، بحثاً عن الحرية، لكن التمساح المتربص تحت الماء أطبق على بطنه بفكيه الفولاذيين، المنشاريين، وقضم قضمة متوحشة من بطنه، فاندلقتْ أحشاؤه.

استطاع حمار الوحش المخطط نزع بدنه من بين فكي التمساح، فتدلّت الأحشاء كلها من بطنه؛ المعدة والأمعاء الغليظة والأمعاء الدقيقة، فبدتْ مثل الثريا والقناديل والعقود والسبحات.. تدلى الكبد، واهتزت الرئتان مثل بالونتين، ووقف حمار الوحش على ضفة النهر مذهولاً، وهو يظنّ أن أحشاءه هي العدو، وراح يعض عليها حتى ينجو منها، ومضى يجري هارباً، ويجرّ وراءه لحمه على الشوك، فتناثر قطعاً ومزعاً، مثيراً وراءه زوبعة من الغبار الأحمر الدموي.

وكنت أريد أن أقول أشياء كثيرة، مثل: إن أول شعار في الثورة السورية كان: "أنا إنسان ماني حيوان"، فالثورة السورية ليست مؤامرة كما يشيع النظام الذي يريد الحفاظ على الثروة والمجد، السيف هو كل المجد في بلادنا، وإنها ليست صراعاً على خط غاز، ولا طمعاً في سندويشة، كما زعموا، أو بضعة دولارات، ولا هي سكرى بالحشيش، ولكن بالشمس وضحاها. وإنها ثورة لإثبات أن السوري حيوان ناطق، على ما قال المناطقة في التعريف بالإنسان. إنها ثورة يستعيد فيها مخترعُ الأبجدية الحروفَ من جديد، بعد أن صارتْ خشباً. وإنه ما ُسُلّ سيف في التاريخ العربي كما سُلَ على الإمامة، وقد ذاق الأسد طعم الإمامة بعد أن رشَّ عليها كنايات الألوهة، وعلى الشعب حقائق الاستعباد، فأدمن عليهما، وإني كنت مثل أكثر الشعب السوري، أريد أن انتخب، وتحت رعاية الأمم المتحدة، واختار الدائرة الحمراء التي تعني: لا.. إله إلا الله.

وكنت أريد أن أقول: إني أخشى أني صرتُ حماراً وحشياً، فأنا شبه أبكم، أتكلم بالإشارة في المنفى، المنفى ينفي، يعدم، وكان النفي عقوبة في الشريعة الإسلامية، فصار على أيام الطغاة مكافأة وفردوساً، وأمسى السوري يعبر الأنهار والبحار، كما تعبر أسماك السلمون عكس التيار، وكما تعبر قطعان النّو الأنهار الملغومة بالتماسيح. يريد أن يعبر إلى جهة يتعلم فيها فنَّ النطق، وأنه ثار من أجل النعمة التي فضل بها الله الإنسان على الحيوان، وكنت أريد أن أحكي وأبوح، وأقف على الأطلال، أن أهمل القصة، لأنها صارت قديمة، وتفوح منها رائحة حمار ميت، وأحكي قصتي، ثم هطل المطر، فهرب من هرب من المستمعين إلى وقاية المظلات، وبقيت تحت المطر، والمطر عندي يعني الرحمة، وتذكرتُ موسى عليه السلام، وكان قد عاش عيشة ملكية في كنف فرعون، في القصر "الجمهوري"، ثم قتل خطأ قبطياً، فهرب إلى مدين، وهربتُ مثله، وله المثل الأعلى، ولم أكن قد قتلتُ أحداً، بل إن أهلي قُتلوا، ودُمّر بيتي بالبراميل... سعدتُ بالمطر، وتذكرتُ دعاءه : (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْـزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ). عندما يهطل المطر، أفرح به وكأني مشرف على الموت من العطش، وأشتهي أن أجري تحته من غير طائرة ورقية.

وكنت أريد أن أقول أشياء كثيرة، وأتذكر لهم عصفور ميشيل كيلو، والطفل الذي ولدته أمه في السجن، والذي لا يعرف ما العصفور، وما الشجرة، وأقول لهم: إن جيلاً سورياً كاملاً لم يعد يعرف ما النار، سوى التي يحترق بها، ويريد اكتشافها من جديد، وما الماء، سوى التي يغرق فيها ... وأقول: إن السوريّ أصبح أعجم، لا يبين، ويتكلم بالإشارة، ونسي الأبجدية، وهو الذي يعزو المؤرخون إليه اختراعها في أوغاريت ورأس شمرا.

وانتهيت من قراءة القصة، وكنا قد اتفقنا على أن أسرد القصة فلذةً فلذة لكني نسيت، (وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ)، فتلوتُها بأسرها، وكنتُ قد ركنتُ إلى وعود دولية تمساحية، بأنّ السلاح الكيماوي خط أحمر، وأن البدر سيطلع علينا من ثنيات الوداع، وبعد أن انتهيت، ولفظتُ أنفاس القصة الأخيرة، تقدمتْ السيدة غابرييل، وعانقتني، فغفلت عنها، وما أنا بالذي يغفل عن عناق امرأة، فقد كنت مشغولاً بأحشائي التي تتدلى مثل الثريا والقناديل وعقود الزينة.

وكانت الكنيسة القريبة قد تذكرت أحزان المسيح إبّان صلبه.

فبدأتْ النواقيس الحزينة تذرفُ دموعها الحديدية ذات الرنين.

من ثنيات الوداع.

 

وكنت أريد أن أقول: أيها الألمان لقد رمتكم سوريا بفلذات أكبادها ...

"قِفَا نَبْكِ" على جدار البوندستاغ

كانت أغرب معركة نازحين في ألمانيا المحتلة، سميت يوم المعركة، يوم " الجاعرتين" أسوة بأيام العرب مثل: تِحلاق اللمم، ويوم الفجار، ويوم ذي قار...

كنت كل يوم أحمل حقيبتي على ظهري، وفيها كتب وأدوات مدرسية، وأقلام كثيرة، وفطيرة وزجاجة ماء مثل براعم المستقبل، قاصداً مدرسة تعليم لغة الأشغال الشاقة.

تقع المدرسة الألمانية، في شارع "أوبل شتراسه"، (بسِقطِ اللِّوى بينَ الدَّخول فحَوْملِ)، أصل متأخرا ً كالعادة، فلا عقاب للطالب بالوقوف على قدم واحدة رافعاً اليدين جزاءاً نكالاً على التأخير، وما إن أجلس حتى أغيب عن الوعي مثل جيك سولي الذي كان يتحول إلى الكائن الأفاتاري في فلم آفاتار، فأقضي أربع ساعات سارحا في مدن زرقاء ووردية، مسحورا بخميرة الذكريات. يوقظني زميلي الشامي معتز: انتهت الرحلة عمو، وحان موعد غنيمة الإياب. صار لقبي عمو عند الحلبي، عميم عند الحمصي، وخالو عند الكردي.. "هرمنا"، والحمد لله على حسن الختام، وحسن الختام اسم للنهاية، وليس اسماً لحسناء جَاءَتْ بِرَيَّا الْقَرَنْفُلِ.

أنزل من الرحلة وقوفاً صَحْبي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ، يقُولُونَ: لا تَهلِكْ أَسىً وَتَجَمَّلِ، وأحمل حقيبتي وأعود فرحاً، سابقا الجميع، كما في أيام الابتدائية. انتبهت يوماً إلى أن بعض قرى حلب كانت تسمي مقعد الدرس الثلاثي الركاب: رحلة.

لي مدرسان، واحد تركي في الخمسين، وهو كاتب سياسي ساخر يكتب بالألمانية، و"خزمتي" النزعة من جماعة غولن، فهو يكره أردوغان، استدرجته فبثَّ أضغانه في الاستراحة، كما لو أن أردوغان سفاح يلقي بالبراميل النارية على رؤوس الأتراك في الشوارع. والثاني هو آنسة ألمانية رقيقة في ضحى الثلاثين. اسمها أليزا، يكاد المرء أن يقول لَهَا (سِيري وأرْخِي زِمَامَهُ وَلا تُبْعِدِيني مِنْ جَنَاكِ المُعلَّل). والطلاب عددهم اثنا عشر طالبا من جنسيات متنوعة، "تشكيلة" كما في خلائط النُقل والموالح، وتسلية الرحلة.

انطلق شرر المعركة من درس في المصطلحات المالية، من "السينس" وتعني: الفائدة الربوية في المصارف.

أفتى خرميش: حرام.

قال يوسف: لست في مراكش يا أفندي.

ثم تحولت الهمستان الطائشتان إلى صراع، ومعظم النّار من مستصغر الهذرِ.

يوسف شاب أفريقي من غانا، مسلم، يحفظ شعره في قلنسوة صوفية ملونة من عاديات النظر في فصل الصيف الحار الرطب، وتلك مشقة بل هي بدعة. ظننته سيخياً في أول الأمر، فذكور السيخ الورعين يتطيرون من ظهور شعرهم، ويحفظونها تحت عمامة يسميها الأمريكان العنصريون "الحفاظة" شتماً وسخرية. ولم أعرف سبب خِمار يوسف، ثم تأوّلته نذراً التزم به. شرح مرةً متطوعاً لنا، فالسؤال ليس من أدب اللياقة؛ إنه من قوم يدفنون الشعر المحلوق، ويجعلون للأظافر المقصوصة مقابر تحت الأرض، لأنها سماد مفيد للتربة! جِهل أنها سنّة نبوية، على الاستحباب، فسبحان الله، فله في خلقه شؤون.

المدرِّسة أم الحويرث أخفت دهشتها، وقالت: الأديان في ألمانيا متساوية، وهي بلد علماني، أليزا تتكلم حبةً حبة كأنها تقول: لَكَ الْوَيْلاتُ إِنَّكَ مُرْجِلي، وقال يوسف معلقا على الفائدة: الفائدة في ألمانيا حلال، فانبرى الشاب المغربي خرميش ساخطاً وقال: كافر!

كل شيء وقع فجأة، فكل الحوادث المغيرة للتاريخ تقع فجأة. وقد أثارت قولته نقعاً، وصياحهما كأنه ليل تهاوت كواكبه.

ردّ يوسف على خرميش ساخراً: عُد إلى بلدك الحلال.

فقال خرميش: ليس بلد أبيك وأمك حتى تطردني؟

فقال يوسف: بلدك حلال عُد إليه.

فوثب خرميش على يوسف في الصف وثبة النمر الغاضب، وتماسكا، وتلاكما، وتطاير الريش وثار النقع، فأفقت من سرحاني في خمائر كينونتي الآفاتارية، والجميع مذهولون مصعوقون، وأغمي على المدرِّسة "أم الحويرث"، ووضعت الزميلة البولونية السحاقية بوجنا يدها على فمها خائفة، واحمرت الحدق، وحمي الوطيس كما في أفلام الويسترن. الهويات جريحة، كل الهويات صارت تنزف عندما صار العالم قرية صغيرة أصغر من إست العقرب في برد العولمة. بادرت إلى الإسعاف والإغاثة، ووسطتُ بهم جمعاً، فحجزت بينهما وجررت خرميش خارج الصف بالقوة، والرماح نواهل من دمي، وأكلت لطمة طائشة. هدّأتُ خرميشاً، وعدت إلى يوسف الذي يضع الإيشارب وأنا أعاتبه وأقول له:

أنت كبير يا يوسف، وهذا شاب طائش، لك سيماء شيخ قبيلة، وكان عليك أن تحلم على الولد".

وعدت إلى خرميش وأنا أعنفه، وأغالب رغبة شديدة في صفعه صعفةً أجعله فيها يدور مثل الصياح، وكان امرؤ القيس قد وصف بالصياح فرسه: دَرِيرٍ كخُذْروفِ الوليدِ أَمَرَّهُ تَتابُعُ كَفَّيْهِ بخيطٍ مُوَصَّـلِ.

وقال المعجم في شرح المعلقة: شيء يُدَوِّرُهُ الصبيُّ بخيطٍ في يديه فيسمع له دويٌّ.

"يا غريب كن أديب"، هكذا يقول المثل عندنا، لاجئ وتبول وتسْلَح في الصحن، وترمي الناس بالكفر، انظر إلى تقوى يوسف، بلغ به التقوى أنه يخفي شعره الفاتن، فقال: لكنه مرابي، والربا حرام، فقلت: هي من الكبائر، لكنها لا تخرج المسلم من الملّة، وأين الملّة يا فلةّ، العين هنا مفتوحة على الدواعش، سيظنونك داعشياً، أو بطل رواية الجريمة والعقاب لدستوفسكي أيام القيصر. هذا زميلنا وأخونا يوسف المسلم، وليس تاجر البندقية شايلوك.

ناولته منديلا، فمسح الدم عن فمه، وعدت إلى الصف، وكان الجميع مذعورين، كأن القافلة تعرضت لغزوة، وأم الحويرث أليزا صفراء بِالمُتَنَـزَّلِ، من ساعة دَارَةِ جُلْجُلِ، قالت إن هذا أغرب ما وقع لها في سبع سنوات من التعليم، فَفَاضَتْ دُمُوعُ الْعَيْنِ مِنِّي صَبَابَةً، عَلى الْنَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِي محْمَليِ.

وعدت إلى خرميش القزعة، وقلت له معاتباً وأنا أشير لسرواله:

قبل أن تصارع الناس في ألمانيا أيها اللاجئ، اشتر بنطلونا لائقاً، يا أخي قل إنك فقير، خذ هذه عشرين يورو مني صدقة، واشتر واحداً جديداً.

وأخرجت قطعة نقدية من جيبي، بنطلونه ممزق ألف مزقه، فابتسم، وقال: لا هذه "مودة ".

قلت: طيب ليس عندك نطاق، سأجلب غدا نطاقاً تلفه على بنطلونك الممزق المرجّل، فأخدود مؤخرتك ظاهر من الخلف.

قال لي: هذه "مودة"..

وضحك على سذاجتي وبساطتي. تابعت جهودي في المصالحة الوطنية العربية الإسلامية، وقلت:

يبدو أنك تحلق لنفسك في البيت، شعرك محلوق قزعة، وذقنك أيضاً، مثل بلاط هذه المدرسة، بلاطة سوداء وبلاطة بيضاء!

فضحك وقال: هذه أيضا مودة (موديل).. الموديل أن يكون شعر الرأس مثل... البلاط.

ذكرت له الحديث الشريف: لا تكونوا إمعة ً تقولون: إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وَطنوا أنفسكم: إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا " وقلت له: قبل أن تكفِّر الناس على الفائدة، وهي من الكبائر، وليست مكفرة، وتنصِّب نفسك رئيساً للحسبة في إمارة دويتش لاند المذعورة من الدواعش، وتجعل نفسك مفتياً للحلال والحرام في الإسلام؟ ابدأ بنفسك، القزعة حرام في الإسلام، ومؤخرتك مكشوفة، أأنت من المثليين الأفاضل.. أأنت "غي"؟

قال: وااااا.. أعوذ بالله..

قلت: فلمَ مؤخرتك مكشوفة مثل مؤخرة القرد؟ هذه مؤخرة من يقوم بالدعاية لها، ولو كنت بنتاً لقلنا مؤخرتها جميلة وسكتنا.

الجمال رشوة بصرية لنهب مكارم الأخلاق في حالة نون النسوة. عجبت من أمر هذين الصعلوكين، هما لاجئان، أحدهما مسلم يكشف مؤخرته، ويسميها العرب السوأة، لأن المرء يستاء من ظهورها، والثاني مسلم يحجب شعر رأسه منذ ست سنوات، رفعت يدي إلى السماء وقلت ضارعاً: اللهم إني أبرأ إليك من أمر هؤلاء. اللهم ارفق بأَمَتِك الصالحة إنجيلا ميركل ونجها من شرورنا وسيئات أعمالنا، يا رب.

اعتذر: واااا.. أعوذ بالله، أنا طبيعي... ومتزوج وعندي ولد.

قلت: الذكور، ذكور كل الكائنات تفعل عكس ما تفعل، تسعى إلى إبراز فحولتها، والإناث إلى إبراز أنوثتها

وذكرت له حديث القزعة، ثم تلوت عليه آية من القرآن الكريم فخشع، واستكان، وعدت إلى يوسف في الصف وعاتبته وقلت له إن "الغلام" يعتذر ومستعد للمصالحة الوطنية، ولا نريد للخصومة أن يصل صداها إلى البوليس. رائحاً غادياً بين عبس وذبيان، أقنعت كل واحد منهما بأن الآخر نادم وسيعتذر، وما عليه سوى الابتسام.

استطعت أن أخرج بيوسف، فهو زعيم قبيلة أفريقية محترم، من وكر الصف إلى الممر خارج القاعة، وأن أجعلهما يتصافحان، وأن يقفا لنبك ِمن ذكرى حبيب ومنزل. عادا إلى الصف متعانقين، وخرميش يشدُّ نطاقه، وأم الحويرث مدهوشة من سرعة المصالحة الوطنية، قلت لها: كاميرا خفية يا مولاتي.."فيرشتيكن" كاميرا..

وصفق الجميع.. وشكرتني أم الحويرث التي استعادت روحها بكوب من القهوة قال فيها ابن حمديس: قهْوَةً، لو سُقِيَتْها صخرة ٌ... أورقتْ باللّهو منها والطَّربْ

فصارت أم الحويرث، بعد المصالحة، تضِـيءُ الظَّلامَ بِالعِشَاءِ كَأَنَّهَــا مَنَـارَةُ مُمْسَى رَاهِـبٍ مُتَبَتِّــلِ.

عادت المدرِّسة أم الحويرث إلى متابعة الدرس، وعدت إلى مقعدي الذي يسميه أهل قرى حلب الرحلة، ما إن جلستُ حتى تحولتُ إلى الكائن الآفاتاري، وغبت في خمائر ليلٍ: كمَوْجِ الْبَحْرِ أَرْخَى سُدو لَهُ، عليَّ بأَنْواعِ الُهمُومِ ليبْتَلي...

وضِعِت تحت أنقاض برميل ومنزل...

Sie haben die kostenlose Leseprobe beendet. Möchten Sie mehr lesen?